في عام 1895م صدر كتاب للكاتب الفرنسي ورائد علم النفس الجماعي غوستاف لوبون بعنوان “سيكولوجيا الجماهير“، اعتبر الكتاب في حينها أنه ذو محتوى “ثوري”، وقرنه بعض النقاد بكتاب “الأمير” لميكافيلي، لما فيه من أفكار “لئيمة” لاستدراج وتوظيف حركة الجماهير والشعوب.
محتويات المقال
لماذا الحديث عن كتاب سيكولوجيا الجماهير الآن؟
رغم مضي قرن وربع على صدور الكتاب في طبعته الأولى؛ وكونه أصبح ذو أفكار تقليدية عند أهل السياسة والاجتماع، إلا أن الكثير من شبابنا العربي المثقف قبل العادي يغفل عن كثير من الأفكار التي أوردها لوبون في كتابه. فكثير لازال يتساءل ما الذي يحرك الناس؟ وما الذي يحكم تصرفاتها؟ لماذا تثور؟ أو لماذا تخنع وتستسلم أحيانا أخرى؟. كل ذلك حفزني للكتابة عنه باقتضاب. إضافة لأسباب أخرى لن يخطئها فهمك إذا واصلت قراءة المقال.
وصف الكتاب والترجمة
كتاب “سيكولوجيا الجماهير” كتاب من القطع الصغير، وعدد صفحاته لاتزيد عن 230 صفحة، وتُرجم إلى العربية اكثر من مرة، ولعل أول من ترجمه الكاتب المصري المعروف أحمد فتحي زغلول (الشقيق الأصغر للزعيم السياسي المصري سعد زغلول)، وهي ترجمة -في رايي- غير جيدة إذا ما قورنت بترجمة الكاتب الليبرالي السوري هاشم صالح الذي وضع للكتاب مقدمة جميلة بقلمه وضّح فيه الخلفية الفكرية والتاريخية للكتاب والكاتب، وقد قرأت الترجمتين، فاستحسنت الأخيرة لما تقدم ذكره، وأن كنت افضّل أسلوب “زغلول” في التعليق على شطحات “لوبون”.
كما توجد ترجمة أخرى ل “إكرام صغيري” لم اطلع عليها.
إقرأ في مدونة حضرمي : قراءة في كتاب “ليطمئن قلبي” للشرقاوي
توضيح لابد منه
وقبل أن أستعرض لك بعض أفكار الكتاب، أود أن أوضح لك عزيزي القارئ أمراً في غاية الأهمية وهو أنني حين أتحدث عن أفكار الكتاب لا أتكلم بأسلوب ما يجب أن يكون، أو يفترض أن يكون ولا بمنطق الحكم ونقد التصرف.. أنما انقل لك توصيف “غوستاف لوبون” نفسه وتحليله للحالة والموقف. فلا يتوهم أحد أني احث على تصرفات غير شرعية نتيجة لذلك، فأنا أنما أصف فصولا من علم النفس الجماعي كما أوردها رائد ذلك العلم “غوستاف لوبون”. مدعما إياها أحيانا بأمثلة من واقعنا لتقريب المعنى للقارئ. مع إقراري سلفا أن بعضا منها قد تثير حساسيتك كما فعلت معي.
المثقف “الأهبل” في الزفة
هل تتوقع من شخص مثقف ذو عقل ومنطق أن يتصرف يوما ما تصرف يوصف بأنه من تصرفات “الرعاع”؟ نعم بالطبع ! .. فحسب “لوبون” يكفي فقط أن نضع ذلك المثقف مع مجموعه من الجماهير؛ التي يكفي أن يتجانس مع بعضهم ليجد نفسه بعد حين ينقاد لرغبة الجمهور ويتصرف بطريقة تتناقض مع تفكيره عندما يكون فردا.
وقد ذكر “لوبون” أمثلة على ذلك من الثورة الفرنسية؛ وكيف أن الجماهير كانت هائجة فيكفي أن يوصف أحد بأنه “عدو للثورة” ليتم سفك دمه وقتله شر قتله من قبل تلك الجماهير وبطريقة جماعية هستيرية.
ومن ذلك قصة مقتل مدير سجن الباستيل “دولوني” على يد الغوغاء، يقول غوستاف لوبون:” بعد أن تم الاستيلاء على السجن راح المدير يتلقى الضربات واللطمات من كل الجهات من قبل الجماهير، وراح البعض يقترحون شنقه، والآخرون يقولون بقطع رأسه، أو بربطه بذنب حصان وسحله في الشارع. ولما راح يتخبط بين أيديهم أسقط رجلاً منهم أرضاً عن غير قصد، وعندئذٍ اقترحوا أن يقوم الذي صرعه بقطع رأسه. وكان هذا الرجل طباخاً متجولاً ونصف متسكع، وقد ذهب إلى الباستيل ليتفرج فحسب، فاستجاب وضربه بسيف لم يكن مشحوذاً فلم يمت فأخرج من جيبه سكيناً صغيراً كان يستخدمها في قطع اللحم وأكمل قطع رأسه بنجاح!”.
هذه الصور الفجة للقاعدة الأولى التي ذكرها الكاتب والتي تنص على أن (قيم وسلوك الإنسان منفردا تختلف عن قيم نفس الفرد حينما يكون في الجماعة أو فردا ضمن جمهور).
ربما لا يستحسن بعض القراء مثال الثورة الفرنسية أعلاه،إذن دعني اضرب لك مثلا أقرب:
جمال شاب مثقف دعي يوما لاجتماع عمل لمناقشة قضية جديدة ومنذ اللحظات الأولى للاجتماع وهو يتبنى فكرة مؤيدة لها، وعند المداولة والنقاش، رفع أحد المؤثرين من الحضور صوته برفض القضية جملة وتفصيلا، وتفاعل معه الحضور بأسلوب حماسي، بل وصرح البعض أن من يتبنى تأييد تلك القضية “خائن للعمل” ويستحق الفصل من العمل!. في جو كهذا وجد جمال نفسه مضطرا لموافقة الجمهور والتخلي عن قناعته، لا تتسرع عزيزي القارئ فتقول: لا.. صاحب القيم لا يفعل هذا. هوّن عليك فالكاتب لوبون يصف حال الغالبية العظمى من البشر ولعلك مثلي 🙂 تكون من الحالات الاستثنائية 😉 من يدري؟!.
الجماهير أقدر على العمل منها على التفكير
سبق وتحدثت في مقال سابق وذكرت الأبحاث العلمية التي درست قرارات المجموعات الصغيرة والكبيرة، والتي وضحت أن المجموعات كلما كبرت كانت مضنة البعد عن الصواب. وهو ما أشار إليه الكاتب فالجماهير تنقاد للافعال والأعمال؛ ولا تتعب نفسها بالتفكير.
ومن هذا المنطلق تجد الأفكار البسيط والساذجة مكانها في عقول الجماهير بشكل أسرع واعمق من تلك الأفكار التي تتطلب تفكيرا وتحليلا.
فالجماهير يكفي أن تتأثر عاطفيا ببعض العبارات الرنانة فتنقاد إلى العمل دون أن تشعر أو تفكر بالدافع إليه، فضلا عن أن تفكر في عواقبه، لأن تأثير المجموع العصبي في أفعالها أكبر بكثير من تأثير المخ والعقل.
فالرجل المفرد يشعر بعجزه عن إحراق مقر حكومي أو نهبه، ولو حرضته بكل قوتك لن يفعلها أبدا!، فإذا دخل مع الجمهور الناهب الحارق فعل ذلك وأكثر لأنه يحس بقوة لم تكن لديه من قبل وتشجع بكثرة العدد!.
إقرأ أيضا في مدونة حضرمي: كيف تقضي وقت الحجر المنزلي ؟
غلو مشاعر الجماهير وبساطتها
يقول الكاتب أن مشاعر الجماهير تجمع بين صفتين: البساطة والغلو الشديد. تتحرك الجماهير بالأفكار البسيطة السطحية التي لاتتطلب مزيدا من التفكير، ولعل ذلك يفسر أيضا نفور الجماهير من متحدث يتحدث بلغة الأرقام والدراسات وتنجذب إلى الآخر الذي يتحدث بلغة المشاعر والعواطف.
وفي المقابل فالتوسط في فكر الجماهير عزيز وصعب. فاذا أحبت شخصا قدسته ولم تقبل فيه قدحا أو نقدا، فيصبح هو ومن يلوذ به في حماية الجماهير. رغم ما يرون من تناقض في حياته وتقلبه في النعيم وأبناؤه يرفلون في الحلل التي ينهبها من عرق تلك الجماهير الجائعة المصفقه له!.
وعلى النقيض إذا وجهت الجماهير ضد رجل لم يشفع له علمه ولا عقله، أمام غضب الجماهير التي من فرط نفورها منه صارت تراه أحد الشياطين بل الشيطان ذاته، ولربما أفرطت في ذلك فأزهقت روحه في لحظة ثورة وهيجان، كما تشهد بذلك كثير من وقائع التاريخ والتي ذكر الكاتب بعضا منها.
استغفال الجماهير
قد ترغب الحكومات يوما بفرض ضريبة جديدة باهظة القيمة، فتلجأ لاستخدام حيل “علم النفس الجماعي” ، وتقسم الضريبة إلى أجزاء صغيرة وتسمي كل جزء بمسمى خفيف لطيف، تتقبله الجماهير مثل الإصلاحات السعرية، ضريبة الضمان الاجتماعي. الخ.
كما تستغل الحكومات غريزة حب التقاليد والإفراط في تقديسها لدى الجماهير وأن لا خير في جديد من فكر أو رؤى أو معيشة، وكما قال الكاتب أن حب الجماهير للتقاليد يبلغ حد العبادة ولربما قدمت التقاليد في كثير من الأحيان على العبادة. فمن أراد التأثير في الجماهير فليدخل من مدخل تقديس التقاليد وإلا اصطدم بمعارضتهم ونفورهم منه.
فقد نقل الكاتب عن نابليون بونابرت قوله: ” إنني أتممت حرب الفدائيين لما تكثلكت (أي صرت كاثولوكيا)، واستوليت على مصر إذ أسلمت، وتوجت بالنصر في إيطاليا لأني قلت بعصمة البابا، ولو كنت أحكم شعباً يهودياً لأعدت معبد سليمان”.
إقرأ أيضا في مدونة حضرمي : كيف نواجه كورونا الإداري؟
الجماهير تتأثر بالخيال
لاحظ منظمو المسرحيات أن الجماهير بعد انتهاء العرض المسرحي المؤثر، تتدخل وتحاول الاعتداء على الممثل الذي مثّل دور الشخصية السيئة، بينما تتودد للممثل الذي مثل دور البطل حامي القيم والمبادئ!. وتنسى أن الإثنان متساويان في العمل كونهما أديا دورا طلب منهما تأديته. وذلك دليل على مدى تأثر الجمهور بالخيال حتى يغدو لا يفرق بينه وبين الحقيقة.
فالقائد المؤثر في الجماهير هو الذي يوظف القصة ويستعين بضرب الأمثلة البسيطة والتشبيه و المقارنات البسيطة. كما أن قادة الثورات يرسمون صورا “فردوسية” لمرحلة ما بعد الثورة ويبالغون في وصف تفاصيلها، ويغضون الطرف تماما عن الضريبة التي يجب على تلك الجماهير أن تدفعها من دمها وقوتها وراحتها.
كيف تغير قناعات الجماهير؟
يذكر غوستاف لوبون أن الآراء تنتشر وتصبح قناعات في الذهن الجمعي للجماهير عبر إن التوكيد والتكرار والمثال والنفوذ والعدوى، فتكرار ذكر بعض الأفكار، قد تبدو عادية في البداية غير أنها بالتوكيد والتكرار تتغلغل في النفوس، ومع وجود قدوات يتبنون هذه الأفكار ومخالطتهم للجماهير تنتقل عدوى تلك الأفكار إليهم فتصبح قناعات لا يحيد عنها أحد.
ولربما تطور الحال حتى أصبحت قانونا يُخوّن ويُدان من خالفها. وهذا هو المبدأ الذي تعمل عليها شركات الإعلان في الترويج للمنتجات والخدمات (التكرار والتوكيد).
لذا قال لوبون أن القادة يعملون على تحويل آرائهم إلى اعتقادات راسخه في أذهان جماهيرهم حتى تسهل قيادتهم ويطيعوهم بلا تردد!.
و يستخدم القادة أسلوب الكاريزما والنفوذ للتحكم التام في الجماهير، حتى قال لوبون في ذلك عبارة تبدو فجة : أسئ معاملة الرجال كما تشاء، واقتلهم ألوفا ألوفا، وانزل على البلاد غارة وغارة؛ إنك في حل مما تصنع ما دمت ذا نفوذ وكان لديك من الذكاء ماتحمي به ذلك النفوذ!.
تقلب أفكار الجماهير
تتقلب أفكار الجماهير تقلبا عجيبا سريعا، وقد عزا الكاتب ذلك لثلاثة أسباب:
- بدء تلاشي الأفكار والتقاليد القديمة بفعل التطور.
- تغول الجماهير وازدياد عددها حفزها لتكون أكثر حرية لإظهار أفكارها الجديدة.
- كثرة انتشار الطباعة والنشر (يتكلم الكاتب عن ما قبل 1895م ! فماذا عن زمان الإنترنت وشبكات التواصل؟!).
الانتخابات والجماهير
يقرر الكاتب أن النظام الديمقراطي البرلماني هو الأفضل رغم عيوبه الجوهرية، ووضح بعضا من أساليب المرشحين في اللعب على أفكار الجماهير واستغلال نقاط ضعفها للفوز بالمقاعد.
كما يقول بأن لاحظ في الفوز بالمقاعد لمن لانفوذ له مهما كانت قدراته الذاتية، فلا ينفع النبوغ ولا الذكاء في هذا الجانب، ولا الثروة إلا إن صنع منها صاحبها أداة للنفوذ.
كما يؤكد على أهمية الأسلوب الخطابي للمرشح وعضو البرلمان قادة الثورات، والا لن يجدوا الجمهور يلتف حولهم.
ختاما ماذا عن ناقدي الكاتب والكتاب؟
كتاب كهذا لن يمر مرور الكرام دون تعليق ونقد من المتخصصين والساسة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، ففي الوقت الذي بقي المؤلف غوستاف لوبون مدفوعا بأبواب جامعات فرنسا لا يُلتفت إليه، ختم حياته بأن أصبح ملهما للساسة والقادة من مختلف الأقطار وكتابه هذا مرجعا في جامعات فرنسا ولقب بمؤسس علم النفس الجماعي.
غير أن كل ذلك لا ينفي النفس العنصري للكاتب، وتحيزه في أمثلته، إضافة إلى عدة ملاحظات ذكرها الأستاذ هاشم صالح في مقدمته لترجمة الكتاب، ورغم ذلك سيبقى هذا الكتاب ملهما للساسة كما بقي كتاب “الأمير” كذلك رغم الملاحظات عليهما.
ما الذي لفت انتباهك عزيز القارئ في المقال وفي افكار الكتاب شاركنا به في التعليقات ادناه