يتصور البعض أن إبراز التعاطف والمشاعر نوع من الضعف، لا يليق بالرجال والقادة منهم خصوصًا، فالتصور الشائع عن القائد هو تحلِيّه بصفات القوة والشدة وربما الغلظة.
وهذا التصور إن صح في الجبابرة فلا يصح في القادة النبلاء وفي مقدمتهم محمد ﷺ ، الذي صحح للعالم مفاهيم وسمات القيادة؛ من خلال سلوكه وسيرته العطرة عليه الصلاة والسلام.
محتويات المقال
ما هو التعاطف؟
هو القدرة على تبادل وفهم مشاعر الآخرين، وهو شكل من أشكال العطاء والبذل الإنساني، المجسد بمشاركة مشاعر التراحم والود والإحسان.
اقرأ أيضا: القيادة في عالم التعقيد والغموض VUCA Prime
التعاطف والقيادة لدى الباحثين
يؤكد الباحثون الغربيون على سمة التعاطف ومراعاة مشاعر الأتباع، كواحدة من أهم السمات، للقيادة المؤثرة وقد ذكر ذلك غير واحد منهم، ويكفي أن أقوى بحوث القيادة الحديثة كتاب (تحديات القيادة) للباحثين (كوزيس وبوسنر) قد ذكر ذلك في الصفة الخامسة وهي (تشجيع القلب)، أضف الى ذلك أيضا ما كتبته Prudy Gourguechon الباحثة في شؤون القيادة الاستراتيجية؛ أن التعاطف مهارة قيادية “أساسية”. وغيرهم الكثير.
صور التعاطف لدى القائد
يقرر الباحثون أن التعاطف السليم يتخذ ثلاثة صور:
- المشاركة في المشاعر والإحساس بشعور الآخرين، كالشعور بالسعادة لسعادة الأفراد، والحزن لحزنهم، ومن الشواهد على ذلك مواساة النبي ﷺ لطفل صغير حزن لوفاة طائر كان يحبه ويلعب به، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – ﷺ – يدخل علينا ولي أخ صغير يُكنى أبا عُمير، وكان له نغر يلعب به، فمات فدخل عليه النبي – ﷺ – ذات يوم فرآه حزينًا، فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير. رواه البخاري ومسلم واللفظ لأبي داود. فالرسول القائد ﷺ قد شعر بحالة الحزن التي يكابدها الطفل الصغير، فسأله عن طائره وما حدث له، بأسلوب لطيف يقدّر وضع المرحلة العمرية للطفل.
- التعاطف المعرفي وهو معرفة الحالة النفسية والمشاعرية التي يمر بها الآخر، وإدراكها وتفهم ما يترتب عليها. وهو إدراك أن الآخر يعاني من وضع نفسي محدد، والتعامل معه وفق هذا الفهم. ومن الشواهد على ذلك الموقف الرائع للنبي ﷺ مع الشاب الذي طلب الإذن بالزنا: عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: (إن فتى شابا أتى النبيَّ ـ ﷺ ـ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد .
إنه أسلوب جميل، أسس له صاحب الخلق الجميل محمد ﷺ ، حيث تفهم مشاعر الشاب ووضعه النفسي، وحاوره حتى أخرجه بسلام من تلك الحالة. - تنظيم العاطفة وهو يعني أن يضبط القائد انفعالاته ومشاعره، فلا يعني التعاطف أن يتصرف بلا ادارك، فعند الخوف العام أو الأزمات وحالات الإحباط لدى الآخرين، يضبط القائد انفعالاته ليخرجهم من حالتهم تلك رغم تفهمه لمشاعرهم، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَجْوَدَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، قالَ: وقدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قالَ: فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وجَدْتُهُ بَحْرًا يَعْنِي الفَرَسَ.
فأهل المدينة سمعوا ذلك الصوت المرعب، فمنهم من خاف ولزم بيته، وبعضهم خرج من بيته ينظر ماذا حدث، وكان رسول الله ﷺ أسبقهم جميعا حيث كان عائدا من مصدر الصوت على فرس (عري) أي دون سرج، حاملا سيفه، فالرسول القائد ﷺ شعر بما شعر به الناس في المدينة، غير أن ذلك الموقف لم يقعده عن المبادرة لاكتشاف المصدر والسبب، فلا يعني التعاطف مع الأفراد أن يتصرف القائد بنفس تصرفات أفراده، بل السعي لإخراجهم من حالتهم تلك.
اقرأ أيضا: تعرف (عِلم القيادة)! فهل تعرف (عِلم الأتْبَاع)؟
أنموذج رائع للتعاطف والمواساة
ونختم بهذا الموقف المبهر في تعاطف القائد حبيبنا محمد ﷺ ومواساته لأفراده وتقديره لظروفهم وأحوالهم:
قال محمد بن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله ﷺ إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله ﷺ، جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله ﷺ فقال: «مالك يا جابر؟»
قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا.
قال: «أنخه».
قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ﷺ ثم قال: «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع عصا من الشجرة» ففعلت، فأخذها رسول الله ﷺ فنخسه بها نخسات، ثم قال: «اركب» فركبت فخرج، والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة.
قال: وتحدثت مع رسول الله ﷺ فقال: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟»
قال: قلت بل أهبه لك.
قال: «لا ولكن بعنيه».
قال: قلت: فسُمْنيه.
قال: «قد أخذته بدرهم».
قال: قلت: لا، إذا تغبنني يا رسول الله.
قال: «فبدرهمين».
قال: قلت: لا.
قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله ﷺ حتى بلغ الأوقية.
قال: فقلت: أفقد رضيت؟
قال: نعم، قلت: فهو لك.
قال: «قد أخذته» ثم قال: «يا جابر هل تزوجت بعد».
قال: قلت: نعم يا رسول الله.
قال: «أثيبا أم بكرا؟» قال: قلت: بل ثيبا.
قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك».
قال قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.
قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها».
قال: فقلت: والله يا رسول الله مالنا نمارق.
قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا».
قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله ﷺ بجزور ونحرت، فأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله ﷺ دخل ودخلنا.
قال: فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله ﷺ، قالت: فدونك فسمع وطاعة، فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله ﷺ، ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله ﷺ فرأى الجمل فقال: «ما هذا؟».
قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر.
قال: «فأين جابر؟» فدعيت له.
قال: فقال: «يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك».
قال: ودعا بلالا فقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية».
قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا.
قال: فوالله ما زال ينمي عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا. يعني يوم الحرة.
هل رأيت كيف تلطف القائد العظيم محمد ﷺ بجابر وتلمس ظروفه وحالته الأسرية، فوجده شابا صغيرا فقيرا، استشهد أبوه، وترك له بنيات صغار، يقوم عليه رعايتهن مما دعا جابرا -وهو الشاب الصغير الطرير- أن يتزوج امرأة ثيبا لتقوم بشؤون أخواته، وعلم من حالته وظرفه، فواساه النبي ﷺ وحفظ كرامته من المسألة ،ووهب له أوقية ومعها جمله الذي أعاده له.
حلو واحلى كلام لما يكون محور الكلام حبيبنا وسيدنا النبي صلى الله عليه وعلى آله
سيدي كاتب المقال زدنا من هذا فتح الله عليكم فتوح العارفين
شكرا لتعليقكم .. إن شاء الله ترقبوا المزيد