يعيش الإنسان في هذه الدنيا في دوامة من الصراعات تمتد بامتداد مراحل حياته لكن أعنفها وأشرسها تلك التي تدور في داخل نفسه. . إنه الميدان الأول والمعركة الحقيقية والقيد الأكبر يـجب أن تحطمه. فكيف نحقق هذا النصر ونفك قيود الأرض وننطلق إلى الله وإلى أفق الفوز الحقيقي في الدنيا والآخرة؟
تزخر كتب الأسلاف بلطائف وحكم ودرر في هذا الجانب وأقرب تعريف لهذا الصراع الداخلي أن نسميه “سياسة” لأنها تحتاج شد وإرخاء ويقظة كاملة وحذر من عوامل التثاقل والإخلاد إلى الأرض لذا نجد الإمام ابن القيم رحمه الله يركز على الكثير من هذه المعاني في كثير من كتبه وكذلك الإمام الغزالي. . فوضعوا مقامات للتعامل مع النفس وهي ما نسميها “بسياسة النفس”. . فهناك مقام المشارطة وهو أن يشترط الإنسان على نفسه أن يحقق طاعة الله. . أو يترك معصية فإن وفّت بذلك استحقت المكافأة والتي تكون غالباً أكلة معينة تحبها النفس بعد الصوم أو غفوة من النوم بعد قيام الليل. . وفي حال الإخلال بالشرط تكون المعاقبة والتي تكون غالباً بالحرمان من أمر تحبه النفس وتألفه كالنوم الكثير والأكل الكثير الشهي أو بإخراج جزء من المال كصدقة. ومن ذلك ما رواه يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي أن أباه قام ليلة ــ وكان يحيي الليل كله ــ فلما طلع الفجر، ورمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فقال: هذا مما جنى عليَّ هذا الفراش، فجعل على نفسه أن لا يجعل بينه وبين الأرض وجلده شيئاً شهرين.
ومثلها المعاتبة والمعاقبة فهذا الإمام المزني الشافعي رحمه الله إذا فاتته صلاة الجماعة صلى تلك الصلاة خمساً وعشرين مرة. .
بعد هذا قد يقول قائل: لماذا هذا التعب؟ لماذا المشقة؟! أليس الدين يُسر؟ أليس الله غفور رحيم؟! نقول: بلى والله وأكثر مما نتوقع، ولكن هؤلاء هم السلف وهم لم يكونوا يسكتون عن أمراض أنفسهم ويوارونها بل كانوا رحمهم الله يعرفون كيف يمسكون بزمام هذه النفس ليحملوها على فعل الخير وليقودوها إلى الله. . بسياسة وبراعة فائقة يصعب على ضعاف النفوس وأرباب الهمم الضعيفة أن يعقلوها. . حتى قال قائلهم: “ما زلت أقود نفسي إلى الله وهي تبكي حتى قدتها وهي تضحك”.